المرسل:
بسم الله الرحمن الرحيم.. السلام على من صار أخاً في الفكر قبل أن يكون أخاً في الإسلام..
السلام على من أنار واستنار ، وتدبّر فاختار خير مسار..
لقد فوجئت يوم أمس من خلال أحد الإخوة الأصدقاء من الذين يكُلّفون بالخطابة والإمامة في بعض المساجد عندنا -وهو مُتّسم بالاعتدال الديني والسلبيّة تجاه بني أُميّة والسلفيّة الوهابيّة وهو من مُريدي الشيخ – بأن صار لكم وجهاً جديداً.
وذكّرني .
والأكثر مفاجأةً بالنسبة لي ماكان منكم في بودكاست ظهرتم فيه على قناتكم بعنوان (خيبة الجماعات الإسلامية) حيثُ أن نسبة اتفاقي معكم فيها تصل إلى 95% دون مبالغة ، ناهيك عن ترضّيك المُجمل عن صحابة رسول الله ﷺ في ذلكم اللقاء ، وترحّمك على بعض الشخصيّات الإصلاحيّة السُنّية في التاريخ الحديث والتي أحببتها واستفدت منها.
ومن هنا فإني أدعوك إلى مزيد من جرأة الطرح في سبيل الوحدة وإحياء الحضارة الإسلاميّة من جديد ، دون أن يكون ذلك على حساب تنازل أي طرف من الأطراف الإسلاميّة عن معتقداتها ، وهو أن يكون مشروع الوحدة التحالفيّة لا الاندماجيّة التي طرحتها ، مبنيّةً أيضاً على المشتركات الميّتة ، نعم الميّتة وليست الحيّة المعلومة.
أعني بها الموقف الإيجابي من الشيخين وصدراً من أيام عثمان عند الإماميّة ، وقد نطقت بذلك مرويّاتكم كما رواها صاحب البحار عن محمد بن الحنفيّة : “إن أبا بكر وعمر عدَلا في الناس وظلَمانا” ، إلى غير ذلك من النصوص التي لا مجال لذكرها. ومن هنا فمن الممكن للإنسان الشيعي أن يحمل الموقفين ، موقفٌ سلبي تجاههم باعتبارهم سلبوا حق الخلافة والميراث بعد رسول الله من أصحابه ، وموقفٌ إيجابي باعتبارهم عدلوا مع الناس -إجمالاً- على المستوى الإداري العام.
أما فيما يتعلّق باستحالة دمج الدولة الحديثة بالحكم الإسلامي فتعقيباً على كلامكم هذا وهمٌ مُتخيّل ، نتيجة ربط الحكم الإسلامي -بظروفه التاريخيّة ومافيه من معايير تقليديّة من أدوات ووسائل وغايات- والنظر إليه بذلكم المنظار التاريخي شكلاً ومضموناً ، وتصويره فيه.
وذلك بخلاف ما طرحه -على سبيل المثال- الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري باشا في كتابه (فقه الخلافة) وكذا الرئيس البوسني الأسبق علي عزّت بيغوفيتش في كتابه (الإعلان الإسلامي) حيثُ صرّحا بأن النظام الإسلامي هو عبارة عن سُلطة مُطلقة -بالنسبة للبرنامج- وديمقراطيّة مُطلقة -بالنسبة للأفراد- وأنها قد تتشكّل بوسائل حديثة باعتبار أن الخلافة مضمون أكثر من كونها شكل ، وجوهر أكثر من كونها مظهر ، وأنها بناءاً على ذلك قد تتشكّل بصورة “اتّحاد فيدرالي” أو غير ذلك ، لأن هذه الحيثيّات من المسكوت عنها في الشريعة رحمةً منه -تعالى- غير نسيان ، فالمهم هو النظر في الغايات لا في الوسائل والآليّات.
هذا الربط التاريخي -بكل مافي التاريخ من عوامل وأدوات ووسائل- أفرز خطّين متباينين : الخطّ المُغالي الذي يُريد إرجاع الناس إلى عالم الإماء والرقيق بدعوى أنها من الشريعة ، والخط المُفرّط الذي يُريد إبعاد الناس عن أصالتهم وإغراقهم في وحول التغريب بحلوها ومُرّها بدعوى الفرار من الرجعيّة ، وما ذلك إلا نتيجة الربط الخاطئ بين أدوات الماضي وفلسفة النظام الإسلامي ، وأنهما لا يجتمعان بناءاً على هذا التصوّر الشائع!
في حين أننا رأينا العديد من (الجمهوريّات الإسلاميّة) المعاصرة جمعت بين الأصالة والحداثة ، بين السلطة المطلقة للإسلام والديمقراطيّة المطلقة للأفراد ، بين دعم القضيّة الفلسطينيّة والانخراط كعضو في الأمم المتّحدة.
أسأل الله أخيراً لي ولك التوفيق والسداد ، والخير والرشاد ، وأن يحشرنا جميعاً مع النبيّ وآله الطاهرين وخلفائه الراشدين وخامسهم مولانا الحسن الأمين ، وأزواجه أمهات المؤمنين.
الرسالة الجوابية:
نشكر لكم رسالتكم الكريمة وما احتوت عليه من أدبٍ رفيع، وحرصٍ صادق على وحدة الأمة، ونبل مقاصد في الدعوة إلى ما يجمع ولا يفرق. وقد سرتنا روح الانفتاح التي لمسناها في كلماتكم.
ونود أن نحيطكم علمًا بأن الهيئة قد عرضت رسالتكم على الشيخ محمد الميل، وقدر مضمونها وحسن نيتكم فيها، وأخبرنا -جزاه الله خيرًا- بأنه سيكتب ردًا خاصًا موجهًا إليكم، فإذا وردنا منه سنقوم بإرساله إليكم مباشرة كما وعدناكم.
الرسالة الجوابية:
كما وعدناكم في مراسلتنا السابقة، نود أن نحيطكم علمًا بأن الهيئة قد تلقت للتو ردًا خاصًا من الشيخ محمد الميل موجهًا إليكم تعليقًا على رسالتكم الكريمة، وقد طلب منا أن نبعثه إليكم مباشرة كما التزمنا بذلك. وكما طلبتم، سيتم حجب اسمكم تمامًا من هذه المراسلات، ومنع ظهور أي معلومات قد تدل عليكم.
إليكم نص رسالة محمد الميل الجوابية كما وصلتنا:
طالعت رسالتك، فوجدتها صادقة في مضمونها، فرأيت من الإكرام أن أبعث إليك جوابًا.
لقد خبرت الجماعات الإسلامية عن قرب لا يخفى: درست على أيدي رجالاتها، ودرست مريديها، وتزعمت عوامها، وتحالفت مع قادتها؛ فكسبت من التجربة ما لا يناله المرء بالقراءة وحدها ولا بالمناصحة.
ولما أتيح لي التأمل بعد التجربة، والتفكر بعد المعايشة، تبين لي أن عدو الأمة الأكبر اليوم ليس ما كنت تصورته، وفهمت أن لكل مذهب إسلامي أدلته يراها مقنعة، ويحسبها منجية، يقطع بذلك ويجزم، وفهمت أن الإسلام أكبر من كل شخصيةٍ عدا نبيها، وأوسع دائرة من كل فكرةٍ سوى ضرورياته التي قررها كتابه المحكم.
واعلم -أعزك الله- أننا لم نكن قط ممن يبغض أصحاب النبي جملة؛ وكيف يكون ذلك، وأكثر القرآن وارد في الثناء عليهم وعلى بلائهم في نصرة صاحبهم النبي؟ ولكن أدلة متضافرة، يقوي بعضها بعضًا، حملت النفس على الاعتقاد بأن أسماءً منهم محل توقفٍ وتحفظ، وأخرى محل براءةٍ واتهام.
فإذا كثرت الأقاويل في شأن أشخاصٍ بعينهم، وتظاهرت الشواهد على مواضع الإشكال في سيرتهم، فالأصل عندئذ ترك استقاء أحكام الدين ومعارف الشريعة ممن اختلف في ضلاله، والأخذ عمن أجمع المسلمون على عدالته؛ إذ لا يترك النهر العذب ويرتوى من غدران الثماد.
وأما ما وصفتموه بـ «الوهم المتخيل»، فاعلم -رحمك الله- أن معظم محاولات إقامة «الدولة الإسلامية» داخل مفاهيم الدولة الحديثة ليست إلا أسلمة لشيءٍ حداثي تمامًا، ومراهنة على صفقةٍ أقل بكثيرٍ مما كان للمسلمين من سيادةٍ مكتملةٍ على مدى قرون، حين لم تكن الدولة الحديثة قد ولدت بعد، ولم يكن سلطانها على مفاهيم السيادة والتشريع قد عم كل شيء.
وبمناسبة ذلك، فإني أعمل هذه الأيام على إعداد سلسلةٍ مسجلةٍ أضع فيها الأسس النظرية والمنهجية للمشروع الجديد الذي أطرحه، والذي أظن أن فيه المخرج من مكر المعسكر الإبليسي، والخلاص من مأزق الدولة المستحيلة، وأن فيه ما يمنح المسلم اليوم توازنًا نفسيًا وفكريًا في ظل ضغوط الحداثة الطاغية.
أسأل الله لك الخير، دنيًا وآخرةً، وأرجو ألا ينقطع تواصلك، فإني ألتمس منك خيرًا كثيرًا لأمة خير نبي.